رغم كل ما تحقق من تقدم علمي، ورغم أن العالم يتهيأ اليوم لعصر الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا الحيوية، لا تزال الشعوذة تقف على أطراف المشهد، تراقب وتنتظر لحظات الضعف لتتسلل من جديد.
حادثة السبيخة من ولاية القيروان، التي أثارت غضبًا واسعًا، ليست سوى واحدة من عشرات الأمثلة التي تكشف أن ظاهرة الشعوذة ليست مجرد سلوك هامشي، بل مرض مجتمعي يستدعي العلاج الجذري.
في تفاصيل هذه الحادثة، نرى كيف يستطيع مشعوذ أن يزرع في عقل إنسان فكرة وهمية، ثم يوجّهه إلى اتخاذ قرارات مدمرة، فقط لأن هذا "المُرشد الغيبي" أوهمه بوجود كنز لا يُفتح إلا بشروط خرافية.
وهنا يكمن جوهر المشكلة، حين يغيب العقل، يصبح أي أمر قابلًا للتصديق، حتى لو كان مناقضًا للمنطق والإنسانية.
الشعوذة لم تعد مجرد جلسة مع قارئة فنجان، أو حجاب يُعلَّق في الرقبة.. لقد أصبحت شبكة إجرام وتأثير نفسي واجتماعي، تستغل الفقر والبطالة، والهشاشة النفسية، وتدخل البيوت من أبواب الحاجة والخوف والرجاء والضعف والطمع.. وهي، للأسف، تجد في بعض وسائل الإعلام ووسائل التواصل منابر تُروّج لها، وتُضفي عليها صفة الشرعية، أحيانًا باسم "الطب البديل"، وأحيانًا باسم "الطاقة" أو "الروحانيات"..
السؤال الجوهري هو لماذا لا تزال الشعوذة موجودة في مجتمعاتنا؟
الإجابة معقدة، لكنها تبدأ من هنا:
ضعف التربية العلمية في المدارس، التي تُغفل تعليم التفكير النقدي وتُكرّس الحفظ فقط..
غياب الخطاب الديني الواعي، القادر على الفصل بين الإيمان الحقيقي والخرافة..
التساهل القانوني في ملاحقة ممارسي الدجل، خصوصًا حين يختبئون خلف المسميات الرمادية..
الإعلام غير المسؤول، الذي يمنح مساحة للشعوذة تحت غطاء الترفيه أو الدعاية ..
إن خطر الشعوذة لا يكمن فقط في تصديقها، بل في آثارها الحقيقية على الأفراد والمجتمع:
عائلات تتفكك بسبب أكاذيب مشعوذ..
أموال تُهدر على وعود لا أساس لها..
قرارات مصيرية تُتخذ بناءً على رؤى وأحلام كاذبة وخرافات..
وحالات، كما في القيروان، تتحول إلى مآسٍ حقيقية..
حين تُدار الحياة بالخرافة، يُصبح المستقبل مجهولًا، نحن اليوم لا نواجه فقط مشعوذين في الأحياء، بل نواجه ثقافة كاملة تحتاج إلى مراجعة عميقة وشجاعة.
المطلوب ليس فقط قوانين أقسى، بل مشروع وطني شامل، يُعيد الاعتبار للعقل والثقافة ، ويجعل من التفكير العلمي والفلسفي جزءًا من الهوية التربوية والثقافية للمواطن.. لا تنمية بلا وعي، ولا وعي مع الخرافة.
في النهاية، لا نلوم فقط من لجأ للمشعوذ بدافع الحاجة أو غيرها من الأسباب، بل نلوم مجتمعًا سمح لهذا المشعوذ أن يكون جزءًا من مشهده..
المشكلة ليست في وجود المشعوذين فحسب، بل في ثقافة تطبّعَت مع الجهل، ومجتمعٍ يُصغي للوهم أكثر مما يُنصت للعلم..
فإلى متى سنواصل التستر على الجهل وتقبله، وندفع ثمنه من إنسانيتنا؟