في عمق كل شخصية سامة، غالبا ما يُمكن تتبّع الخيوط الأولى إلى البيئة الأسرية التي نشأ فيها الفرد، فرغم أنّ العائلة تُعدّ المؤسسة الأولى للتنشئة الاجتماعية والنفسية، فإنها قد تتحوّل إلى بيئة خصبة لإنتاج أنماط سلوكية سامة، تتشكّل تدريجيا في وعي ولا وعي الفرد، وتُعاد إنتاجها لاحقًا في علاقاته مع العالم.
هذا التحليل يستعرض، من منظور علم النفس الاجتماعي والتحليل النفسي، كيف تساهم الأسرة بشكل جذري في بلورة الشخص السام، ويوضح الدور المحوري الذي تلعبه في ترسيخ أنماط العلاقات المؤذية وتشكيل العقد النفسية المعقدة التي قد تطارد الإنسان طيلة حياته.
الأسرة كأرض خصبة لتشكل السمية النفسية
الشخصية السامة ليست نتاج لحظة عابرة أو تجربة معزولة، بل هي نتاج تراكمات وجدانية وسلوكية تشكّلت غالبًا في محيط الأسرة..
تشير أبحاث علم النفس التنموي إلى أنّ الطفل يتعلّم من خلال النمذجة؛ أي أنه يراقب سلوكيات والديه وأفراد عائلته ويقوم بمحاكاتها.. فإذا كان الجوّ الأسري مشبعًا بالانتقاد، العنف اللفظي، أو التلاعب العاطفي، فإن الطفل غالبًا ما يُطور آليات دفاعية تتسم بالسمية لاحقًا، مثل النرجسية، التحكم، اللوم المستمر للآخرين، أو غياب التعاطف..
كما بيّنت دراسة نُشرت في مجلة Development and Psychopathology سنة 2022، أنّ الأطفال الذين نشأوا في بيئات أسرية غير آمنة عاطفيا، كانوا أكثر عرضة لتطوير سمات الشخصية الحدّية أو النرجسية، وهي سمات ترتبط بشكل وثيق بالسمية في العلاقات.
أنماط أسرية تغذي السلوك السام
1. الأسر النرجسية: حيث يكون أحد الوالدين أو كلاهما نرجسيا، فيتم استخدام الطفل كوسيلة لتعزيز صورة الأبوين، وليس ككائن مستقل.. في هذه البيئة، لا يتم الاعتراف بمشاعر الطفل، مما يولد شعورًا دائمًا بالنقص أو الرغبة في السيطرة على الآخرين لاحقًا لإثبات الذات.
2. الأسر المتسلطة أو المستبدة: حيث تُقتل فردية الطفل، ويتم فرض الطاعة العمياء.. ينتج عن ذلك شخصيات إما خانعة ومكبوتة أو متمردة وسامة تحاول دومًا فرض سيطرتها كرد فعل دفاعي.
3. الأسر المتجاهلة عاطفيا: حيث لا يُوفّر الأمان العاطفي، ويُترك الطفل في عزلة شعورية، هذا النوع من الحرمان المبكر يُعيد تشكيل ذاته على هيئة علاقات تفتقر إلى الحميمية، تتسم بالبرود أو الحاجة المستمرة للتأكيد على الحب بشكل مرهق للطرف الآخر.
4. الأسر المضطربة: التي تعيش في أجواء عنف منزلي، أو إدمان، أو اضطرابات عقلية غير معالجة.. هنا يتطبع الطفل مع المفهوم المُشوّه للعلاقات، ويعتبر التوتر أو السيطرة جزءًا طبيعيا من القرب.
السمية كنتيجة لآليات التكيّف المبكرة
السلوكيات السامة ليست دائمًا نابعة من خبث، بل كثيرًا ما تكون آليات تكيّف نفسية طورها الفرد للنجاة في بيئة أسرية مهدِّدة..
فالشخص المتلاعب، مثلًا، قد يكون طفلًا تعلم أن لا أحد يستجيب لطلباته إلا بالحيل، والمتنمّر ربما كان ضحية إذلال مستمر داخل أسرته، فتبنّى السلوك ذاته ليشعر بالقوة..
وفي هذا السياق، تشير دراسة نشرت سنة 2023 في Journal of Personality Disorders إلى أن 68% من البالغين الذين تم تصنيفهم كشخصيات “صعبة أو سامة” قد عانوا من أنماط تربية غير صحية، تميزت بالتقليل المستمر من شأنهم أو استخدامهم كأدوات لإرضاء احتياجات الأهل..
كيف تُعاد برمجة السمية في العلاقات اللاحقة؟
الفرد الذي ترعرع في بيئة أسرية سامة غالبًا ما يحمل هذه البرمجة إلى علاقاته العاطفية، المهنية، والاجتماعية.. فمثلاً، من نشأ في جو من الحب المشروط، قد يعتقد أن عليه التضحية باستمرار لنيل القبول، فيدخل علاقات غير متوازنة، أو من تربّى على التحقير قد يلجأ إلى تحقير الآخرين لحماية نفسه من الشعور بالدونية.
كما تؤكد دراسات العلاج الأسري أن الأفراد يعيدون، دون وعي، سيناريوهات أسرهم الأصلية في علاقاتهم الحالية.. فمن لم يُشفَ من جروحه الطفولية، غالبًا ما يُعيد تمثيلها في حياته، سواء كضحية أو كمعتدي..
هل يمكن كسر الحلقة؟
رغم التأثير العميق للأسرة، إلا أن السمية ليست قدَرًا محتومًا، الفهم الواعي للجذور الأسرية لتصرفاتنا السامة يُعدّ الخطوة الأولى نحو التغيير.
التحليل النفسي، العلاج السلوكي المعرفي، والعلاج الأسري كلها أدوات ناجعة تساعد الفرد على تفكيك برمجيات الطفولة المؤذية وإعادة بناء ذاته بشكل صحي.
والأهم من ذلك، هو الاعتراف بأن “العائلة” ليست دائمًا ملاذًا آمنًا، وأنّ الوعي بدورها في تكوين مشكلاتنا لا يُعدّ خيانة، بل بداية للشفاء.
إنّ العائلة، رغم دورها الحاسم في البناء النفسي والاجتماعي للفرد، قد تتحوّل إلى البؤرة الأولى للتشوهات النفسية التي تُفرز علاقات سامة وسلوكيات مدمرة..
فهم هذا الدور لا يعني تبرير الأذى، بل تحليله بعمق لاستيعاب جذوره وتفكيك بنيته، فالإنسان ليس فقط ما يصنعه بنفسه، بل أيضًا ما صُنِع له في لحظات ضعفه الأولى.. لكن القدرة على التحوّل تظل دومًا خيارًا ممكنًا، يبدأ بالإدراك، ويتحقق بالشجاعة النفسية لتغيير السردية..
كم من حقيقة عن نفسك هي أنت فعلا.. وكم منها مجرد بقايا أصوات العائلة التي شكّلتك؟