عاجل
-‎تونس تسجّل عجزًا تجاريًا قياسيًا يتجاوز 11,9 مليار دينار في نهاية جويلية 2025- ‎رحيل فاضل الجزيري... وداع مؤثر لعملاق المسرح والفن التونسي
BTC: $45,230 (+2.3%) ETH: $3,180 (-1.2%) الدينار التونسي: 3.15 دولار النفط: $82.45 (+0.8%) الذهب: $1,950 (-0.5%)
شيفرة المجتمع

‎صناعة القطيع الرقمي.. "التيكتوكرز" وتغييب الوعي في زمن التفاهة الرقمية..

01 Jul 2025
الاقتصاد التونسي



‎المؤثرون الجدد خلف الشاشة المحمولة: قراءة نقدية في ظاهرة التيكتوكرز وتأثيرها الاجتماعي والنفسي

‎بقلم سيرين النجار
‎في زمن الطفرة المعلوماتية، والسيولة الثقافية وتسارع الإيقاع الرقمي الجنوني، ظهرت فئة جديدة من المتداخلين في المشهد الاجتماعي والرمزي تعرف بـ"المؤثرين"، وبرز من بينهم ما يطلق عليهم "التيكتوكرز" ، رواد تطبيق TikTok ، الذين أصبحوا يحتلون مكانة مفصلية في تشكيل أذواق الشباب، وصياغة القيم الجديدة المستحدثة، وصناعة ما يسمونه بالمعنى في حياتهم اليومية.. هذه الظاهرة تستدعي قراءة فكرية ونقدية تتجاوز السطح الاستعراضي للظاهرة، وتغوص في بنيتها النفسية والاجتماعية.
‎ التحول من "النموذج" إلى "المؤثر"
‎ يرى عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو، في تحليله للبنية الرمزية للسلطة،أن المجتمع ينتج رموزه انطلاقا من رأس المال الرمزي (الشهرة، المكانة، السلطة الثقافية).. ما نراه اليوم هو إعادة تشكيل لهذا الرأس مال، حيث لم تعد السلطة الرمزية مرتبطة بالمعرفة أو الأخلاق، بل باتت مرتهنة لعدد المشاهدات والمتابعين.
‎"المؤثر" المعاصر، وخصوصا على التيك توك، لا يستمد شرعيته من قيمة ما يقدمه، بل من مدى انتشاره، في هذا السياق، يقول المفكر الألماني، يورغن هابرماس، إن "المجال العمومي تحوّل من فضاء للنقاش العقلاني إلى سوق للتأثير الجماهيري"، وهي ملاحظة تنطبق بدقة على واقع التيكتوكرز، حيث يهيمن السطح على العمق.
‎الانبهار الأعمى والسريع.. النفس البشرية في قبضة "الإعجاب الوهمي"..
‎ يمكن فهم جاذبية التيكتوكرز من منظور علم النفس، من خلال مفهوم "المكافأة الفورية" (Immediate Gratification)، حيث يربط الدماغ بين المحتوى السريع وردود الفعل الآنية (الإعجابات، المشاركات، التعليقات).. يقول عالم النفس الأمريكي سكينر، إن "الإنسان يُشكَّل عبر أنظمة التعزيز.."، وهذا ما تفعله خوارزميات التيك توك، إذ تُكافئ وتعطي الأولوية للسلوك القابل للاستهلاك الفوري، وتُهمّش التأمل والتفكير النقدي.
‎تتمثل خطورة هذا النمط في ما يسميه عالم النفس الاجتماعي فيليب زيمباردو "التموضع الزمني"، حيث يسجن الأفراد في حاضر دائم غير متصل بماض تأملي أو مستقبل استراتيجي.. التيكتوكرز يقدّمون للمتابعين "الآن فقط"، مما يجعل المتلقي ضحية لثقافة "التمرير اللانهائي" التي تحبس العقل في قوقعة اللحظة.
‎ من جمهور يفكر إلى قطيع رقمي..
‎ حذّر الفيلسوف الفرنسي غوستاف لوبون في كتاب "الجمهور"، من قدرة الجماهير على فقدان العقلانية لصالح العاطفة الجماعية، هذا التوصيف يجد صداه في سلوك الجمهور الرقمي الذي يتفاعل مع التيكتوكرز دون فحص نقدي، بل أحيانا بانقياد شبه أعمى وعاطفي يتجاوز كل معيار عقلاني.
‎ أدى هذا إلى بروز ظواهر مثل "ثقافة الإلغاء" و"التحشيد الرقمي"، حيث يستطيع التيكتوكر ، بكلمة أو فيديو ، أن يوجه جمهورا بأكمله ضد شخص أو فكرة، وشاهدنا ما هو أبعد من هذا..
‎وهنا تظهر هشاشة الهوية الفردية وسط ضغط الجماعة الافتراضية، وهو ما أشار إليه عالم الاجتماع إيريك فروم حين قال: "الإنسان المعاصر لا يخشى أن يُستعبد، بل يخشى أن يكون مختلفًا".
‎ التيكتوكرز.. "سيلفي وجودي" ألغى عمق المعنى..
‎ تمثل ظاهرة التيكتوكرز من وجهة نظر فلسفية، ما يمكن تسميته بـ"السيلفي الوجودي"، حيث تتحول الذات إلى مشهد مقولب، وتختزل الكينونة في صورة قابلة للعرض. قال المفكر الكندي مارشال ماكلوهان : "الوسيط هو الرسالة"، أي أن شكل الوسيلة يؤثر في طبيعة المضمون. تيك توك وغيره من التطبيقات ، كمنصة، بهيكليته القائمة على الفيديوهات القصيرة والمؤثرات السمعية والبصرية المبرمجة والمركبة والسطحية في آن، يُنتج ذواتا "مشهدية" فارغة وسلبية، لا ذواتا فكرية ونقدية وتفاعلية.
‎كثيرة هي الأسئلة التي علينا طرحها والتفكير فيها بجدية اليوم، هل نعيش في عصر يُكافئ السخافة ويُقصي العمق؟ هل أصبح التيكتوكر هو النموذج الجديد للمثقف؟ وهل نحن بصدد تحول من "عقل التنوير" إلى "سلوك القطيع الرقمي"؟؟!
‎حتى نكون منصفين بعض الشيء، التيكتوكرز ليسوا بالضرورة ظاهرة سلبية في مجملها، فبعضهم يقدم محتوى معرفيا أو ترفيهيا مهم وذا جودة .. ولكن الخطر يكمن في التعميم المفرط وغياب التوازن بين الشكل والمضمون، بين الانتشار والقيمة، علينا أن نعيد التفكير في معايير التأثير، وأن نُخضع هذه الظاهرة لتحليل نقدي مستمر، حتى نساعد المتلقي للوصول إلى درجة الوعي الكافية التي تجعله قادرا على التمييز واختيار ما يتابعه،  كما يجب على المؤسسات التربوية والثقافية أن تلعب دورا في تعزيز الوعي النقدي لدى الشباب وخاصة لدى الأطفال، وتوجيههم نحو التفريق بين "المؤثر الحقيقي" و"المُؤثر الظاهري".


1,245 مشاهدات