على الرغم من التنوع الثقافي، فإن معظم الدول العربية تتشارك في سمات أساسية: التربية الجنسية الغائبة، التقاليد المحافظة، الفصل بين الجنسين، وضغط العار المجتمعي.. هذه العوامل تشكل أرضًا مشتركة تتشكل منها ملامح الكبت الجنسي.
تونس تميّزت بإدخال التربية الجنسية في المدارس الابتدائية والمتوسطة ، وهو الأول من نوعه على مستوى العالم العربي .. بينما في دول مثل السعودية، مصر، ولبنان، لا تزال التربية الجنسية ضمن برامج العلوم أو الفقه، وغالبًا ما يتجنب المعلمون التعامل معها بسبب توجهات دينية واجتماعية ..
الصمت المُدجّن: حين يتقاطع الكبت الجنسي مع التقاليد الثقافية في العالم العربي (وتونس نموذجًا)
في العالم العربي، لا يمكن فهم الكبت الجنسي كمسألة فردية فحسب، بل هو انعكاس مركّب لعلاقات متشابكة بين السياسة، والدين، والتعليم، والتقاليد الاجتماعية.. وفي هذا السياق، تظهر تونس كمختبر اجتماعي مدهش، فيه تتقاطع محاولات التقدّم مع ثقل الإرث الثقافي، وسط بيئة مشبعة بالتناقضات.
تكشف الدراسات الاجتماعية والصحية في المنطقة عن تحولات خفية لكنها ذات دلالة.. ففي تونس، أظهرت دراسة حديثة أن 70% من الشباب الذكور أفادوا بمعرفتهم لأصدقاء مارسوا الجنس خارج إطار الزواج، في حين بلغت النسبة بين الفتيات أكثر من 25%، وغالبًا ضمن علاقة واحدة.. هذا يشير إلى مسافة واسعة بين المواقف المعلنة والسلوك الواقعي.
في سياق آخر، كشفت دراسة تونسية حول اضطراب الفيجينيسمس (تشنّج المهبل اللاإرادي أثناء العلاقة الزوجية) أن 85.7% من الحالات كانت أولية (أي منذ بداية الحياة الجنسية)، وأن نصف النساء تقريبًا تعرضن لما يُعرف مجازيًا وشعبيا بـ"التصفيح"، وهو نمط من الخنق الاجتماعي الذي يُحاصر الجسد والجنسانية، وهو في شكل ما نوع من الشعوذة.. كما تبين أن 70% تلقين معلومات تقليدية سلبية حول العلاقة الجنسية الأولى، و20% أرجعن سبب الاضطراب إلى السحر، فيما لجأت 24% إلى معالجات شعبية بدلًا من الاستعانة بأخصائيين.
أما في مصر، فقد أظهرت دراسة أجريت في الريف (منطقة الدلتا) أن واحدة من كل خمس نساء تعاني من هذا الاضطراب، وسط ضعف في تفهم الشريك وغياب دعم نفسي، حيث أبدى أكثر من 70% من الأزواج عدم استعداد للتعامل الإنساني مع المشكلة، وقد رُصدت تبعات نفسية خطيرة لدى عدد من الحالات.
وفي السعودية، سجلت الأبحاث نسبة انتشار للفيجينيسمس بلغت حوالي 4.6% في منطقة نجران، مع تدنٍّ واضح في الوعي حول طبيعة الاضطراب، حيث أقرّت 60% من النساء بعدم توفر مصادر موثوقة للمعلومة.
تونس: بين الريادة والصراع..
تُعدّ تونس أول دولة عربية تبادر بإدخال التربية الجنسية إلى المناهج التعليمية، بدءًا من سنّ الخامسة، وذلك ضمن إطار علمي يحترم الخصوصية الثقافية والدينية. ورغم هذه الخطوة الجريئة، لا تزال خارطة التطبيق محدودة، حيث يعاني كثير من المدارس من نقص في الكفاءات أو من مقاومة اجتماعية مستترة، وهو ما يؤخر تعميم هذا النوع من التعليم على نطاق واسع.
ورغم المكاسب القانونية، كإلغاء القانون الذي كان يُسقط التهمة عن المغتصب إذا تزوج ضحيته، إلا أن التجربة بيّنت أن الإصلاح القانوني وحده غير كافٍ لتغيير العقليات ما لم يُدعَم بحراك ثقافي وتعليمي طويل الأمد.
البُعد النفسي والاجتماعي للكبت
ينشأ الكبت الجنسي في العالم العربي من تربية تقليدية تُحمّل العذرية قيمة أخلاقية مطلقة، فيُصبح الجسد منطقة محرّمة، يُنظر إليه بخوف أو اشمئزاز..
هذا الخوف المتراكم يؤدي إلى اضطرابات نفس‑جنسية مثل الفيجينيسمس، حيث تلجأ النساء لتفسيرات غيبية كالسحر، أو تلتمسن العلاج من جدّات أو مشعوذين بدل الطب النفسي والجنسي.
يُعالج هذا الاضطراب عادة عبر العلاج السلوكي المعرفي، الذي يركّز على تحرير المرأة من عقدة الخوف، وبناء علاقة ثقة مع الشريك ومعالج مدرّب على التعامل مع الثقافة المحلية الحساسة.
من جهة أخرى، يتسبب غياب الحوار الجنسي السليم في دفع الشباب إلى الإنترنت والأفلام الإباحية ومصادر مشوّهة، ما يكوّن مفاهيم خاطئة وصورًا غير واقعية عن الجنس، تُسهم لاحقًا في خيبات وتجارب صادمة.. كما يؤدي ربط الجسد فقط بمفاهيم "النظافة" أو "الحرام" إلى تعميق الشعور بالذنب والعار، خاصة لدى النساء، ما يُعيق التوجّه للعلاج أو حتى رعاية الحمل في فترات حرجة.
أصوات من الواقع..
في منصات التواصل والمنتديات الرقمية، تظهر شهادات حيّة تكشف عن عمق الهوّة بين الخطاب الرسمي والواقع المعيش.. تقول إحدى الشابات التونسيات: "المدة الوحيدة التي تعلمنا فيها عن الصحة الإنجابية كانت في نهاية السنة التاسعة.. ثم اعتمدت على الإنترنت وتعلمت مفاهيم غير واقعية حول الجسم".
وفي مشاركة أخرى: "حتى في تونس المتفتحة نسبيا، لا تزال وصمة عدم العذرية على المرأة قائمة.. هناك ازدواجية ثقافية صارخة".. هذه الأصوات تعبّر عن حاجة حقيقية إلى خطاب صادق يتجاوز التجميل الرسمي.
الاختلافات في التجربة والنتائج
مصر
أحد أعلى معدلات التحرش الجنسي، حيث أبلغت 99.3٪ من النساء عن تعرضهنّ لمضايقات .
الفتيات اللاتي يتعرضن للتحرش يعانين من آثار نفسية قوية مثل القلق، نوبات الخوف، الأرق، وانخفاض الثقة..
الكبت الجنسي يُقترن بسلوكيات عنيفة بعد الزواج: هناك حالات لزيجات تتسم بالإلحاح الجنسي الشديد كإخلاء لتراكم الرغبة المكبوتة يصل حد الاغتصاب الزوجي.
السعودية
الفصل الجندري صارم، وامتد للعامة والخاصة؛ لكن الإصلاحات الأخيرة بدأت تزيل هذا الفصل .
الرغبة الجنسية تُعتبر موضوع حساس، ونسبة الرجال الذين يعانون من ضعف الانتصاب لا يعالجونه طبيا نتيجة الخجل أو العُرف الاجتماعي.
التعليم الجنسي محدود جدًا، ومعلمون غير مؤهلين أو مرتعبون من مناقشة الموضوع، والأطباء يتجنبون تقديم خدمات للنساء غير المتزوجات بدعوى الخشية على العذرية .
لبنان
في حين أن التوعية الجنسية ما تزال محدودة، تلقى المواقف تجاه المثلية الجنسية تطورات؛ هناك دعم و ميول إيجابية من بعض المهن الصحية تجاه مجتمع LGBTQ+ .
رغم بعض التقدم القانوني والاجتماعي، لا تزال القوانين الدينية تنظم العلاقات الجنسية، مما يضع المرأة في موقع ضعف ضمن الأسرة والقانون والمجتمع ..
تونس
رغم انفتاحها النسبي، كانت قوانين مثل "تزويج المغتصب" سائدة؛ ولكن تم إلغاؤها في 2017 ضمن إصلاح شامل لحماية المرأة من العنف.
انتشار التربية الجنسية في المدارس يشكل خطوة إيجابية نحو مواجهة الكبت بشكل علمي ومنهجي..
بقية الدول (الأردن، المغرب، فلسطين…)
في الأردن، التغاضي عن الحاجات الجنسية للشباب؛ وبالرغم من توفر بعض التوعية عند مؤسسات صحية، إلا أن العار الثقافي يبقى عائقا.
في المغرب، نسبة التحرش مرتفعة، والنقاش العام ما يزال ضعيفًا، ولا توجد تشريعات فعّالة للوقاية أو الحماية .
في فلسطين، عملت منظمات مثل "منتدى الجنسية" على كسر تابوهات الحديث عن الجنس وتشجيع التعبير بلغة عامية سليمة..
التأثيرات النفسية والاجتماعية على الفرد والمجتمع
أ. اضطرابات نفسية وجنسية
* الأفراد LGBTQ+ في العالم العربي يعانون من معدلات مرتفعة للاكتئاب، أفكار الانتحار، واضطرابات ما بعد الصدمة المرتبطة بهوية جنسية غير مطابقة للمألوف الاجتماعية، والواقعة تحت ضغط مجتمعي يجرها لكبت مشاعرها وميولاتها الجنسية..
* الفتيات في عدد من الدول تعاني من مشكلات رغبة ومشكلات جسدية مثل الألم أو عدم الاستثارة، وهي مرتبطة بالثقافة وعدم توفر التوعية، وفي المقابل تكون عاجزة عن التعبير أو البحث عن حل لمشاكلها..
ب. الاضطرابات الزوجية والجسدية
* حالات مثل الفيجينيسمس (vaginismus) منتشرة – تخاف الزوجة من العلاقة الجنسية بسبب التربية المتشددة أو التربية الأسرية القريبة جدًا، والعلاج يحتمل إشراك العائلة والتكيّف مع السياق الثقافي ..
* القمع الجنسي يُعزز الشعور بالعجز المكتسب عند المرأة، ويضعف العلاقات الزوجية ويزيد من الفجوات العاطفية ..
ج. العنف السياسي والمجتمعي
* في سياق ثورات ما بعد الربيع العربي (مصر، اليمن، ليبيا)، استُخدمت العنف الجنسي كسلاح ضد النساء لتقويض دورهن في التغيير السياسي ..
العوامل المحفزة والمحافظة على الكبت
العرف الديني والمشاعر المرتبطة بالعار والفضيحة: الأمية الجنسية تُعتبر تحصينًا وأرضية خصبة للكبت الجنسي، خاصة عند النساء غير المتزوجات ..
ندرة الحوار المفتوح والاستنارة الجنسية: الحديث عن الجنس غالبًا ما يُمارس بالعامية الغير لائقة، ما يكرس الشعور بالخجل ..
الانترنت كنافذة عشوائية: الإقبال الكبير على المحتوى الجنسي يعكس تأثير الرقابة الاجتماعية وما يفتقره الشباب من مساحة آمنة للفهم والتعبير ..
ما الذي يُمكن فعله؟
1. توسيع التربية الجنسية، ليس فقط في تونس، بل في كل الدول العربية ، مع التركيز على الجوانب النفسية والاجتماعية..
2. تدريب المعلمات والمعلمين والأطباء على كيفية التعامل دون خوف أو وصم، وتفهّم حاجات الشباب، خاصة غير المتزوجين..
3. تشريع وحماية حقوق المرأة، مثل إلغاء قوانين تزويج المغتصب، وتفعيل قوانين ضد التحرش ورفع ثقافة عدم التستر..
4. دعم الصحة النفسية للفئات المظلومة: أفراد LGBTQ+، ضحايا العنف، الذين يحتاجون دعمًا يتماشى مع الخصوصية والهوية..
5. فتح حوار مجتمعي مؤثر حول الثقافة الجنسية، للدفع نحو لغة مهذّبة ومساحة آمنة للنقاش..
ليس التعليم الجنسي ترفًا، بل هو ضرورة صحية ونفسية، إنه أداة للوقاية من العنف، لتكوين صورة صحية عن الجسد، ولإعداد الأجيال على التعايش مع ذاتها وجسدها في انسجام واحترام..
كما أن العلاج النفسي لاضطرابات مثل الفيجينيسمس يحتاج إلى إدماج للأسرة، وإعادة تفكيك الروايات الثقافية التي تصوّر الجنس كـ"إثم" بدل كونه تجربة إنسانية صحية راقية..
أما على المستوى القانوني، فإن الإصلاحات مثل إلغاء قانون تزويج المغتصب تمثل علامات فارقة، لكنها تحتاج إلى بنية ثقافية حاضنة تحوّل النصوص القانونية إلى واقع معيش.
ويلعب الإعلام والمجتمع المدني دورًا محوريا في هذا الصدد.. مبادرات مثل #أنا\_زادة أو "موجودين" تفتح فضاءات بديلة للنقاش، وتمنح الشباب والشابات أدوات التعبير، وتساعد على كسر الصمت، لا من باب الاستفزاز، بل من باب المطالبة بحقوق إنسانية أساسية.
تونس كنقطة انطلاق..
وسط هذا المشهد المتقاطع، تظل تونس، رغم التحديات، نموذجًا يُمكن البناء عليه، ليس لأنها بلغت الحلول، بل لأنها فتحت الأبواب على نقاش لم يعد ممكنًا تجاهله..
الكبت الجنسي في العالم العربي يتخذ أشكالًا متعددة بحسب الدولة، لكنه يعود دومًا إلى عوامل مشتركة: الأحكام والأفكار المتوارثة، والفهم المشوه للدين، والخجل الثقافي والتقاليد الصارمة.. النتيجة؟ معاناة نفسية، زواجا مضطربا، عنفًا مجتمعيا، واضطرابات جنسية..
ولكن، يبقى بذر التغيير موجود، في تونس كتجربة متقدمة مقارنة ببقية الدول العربية، وفي منظمات مجتمعية نشطة، وفي وعي تدريجي.. خطوة بخطوة، ومع دعم مؤسساتي وثقافي، يمكن البناء على هذه البذور لإطلاق نقاش صحي، وتثقيف شامل يدعم المواطن جنسيا ونفسيا..
فهل نبقى أسرى خطاب الكبت والعيب والخوف والتحريم، أم آن الأوان لنفكّ الحصار عن الجسد ونعلّم أبناءنا كيف يحبّون دون خوف؟