عاجل
-‎تونس تسجّل عجزًا تجاريًا قياسيًا يتجاوز 11,9 مليار دينار في نهاية جويلية 2025- ‎رحيل فاضل الجزيري... وداع مؤثر لعملاق المسرح والفن التونسي
BTC: $45,230 (+2.3%) ETH: $3,180 (-1.2%) الدينار التونسي: 3.15 دولار النفط: $82.45 (+0.8%) الذهب: $1,950 (-0.5%)
شيفرة المجتمع

‎استبداد الشعوب.. حين يتحوّل القمع من الحاكم إلى الجماعة.. ألفة يوسف: كأنّنا شعوب مستبدّة عن وعي أو غير وعي

31 Jul 2025
الاقتصاد التونسي


‎في المجتمعات التي عانت طويلا من الاستبداد السياسي، غالبا ما تُوجَّه الأنظار إلى الأنظمة والسلطات بوصفها المصدر الأساسي للظلم، وتُلقى اللائمة على القادة، الجيوش، والدساتير المفروضة..
‎لكن، قلّما تُطرح الأسئلة حول دور المجتمع نفسه في إنتاج هذا الاستبداد، أو في إعادة تدويره بصيغ مختلفة داخل النسيج الثقافي والاجتماعي، لا السياسي فقط..
‎من هذا المنطلق، تظهر فكرة "استبداد الشعوب" كآلية عميقة ومعقدة لإعادة إنتاج الهيمنة، لا من فوق فقط، بل من داخل الجماعة ذاتها، أحيانا عن وعي، وأحيانا كثيرة بلا وعي.
‎في هذا السياق، تقول الكاتبة والباحثة التونسية، الدكتورة ألفة يوسف:‎
 "كأنّنا شعوب مستبدّة عن وعي أو غير وعي...
‎ وإلاّ فماذا يزعجنا أن يقول ممثّل إنّه تاب أو إنّه يرى الفنّ 'غير نظيف'...تلك رؤيته، وليست حقيقة الحياة ولا حقيقة الفنّ..."
‎هذا الطرح لا يخص فردا بعينه، ولا مناسبة محددة، بل يكشف عن مرض اجتماعي كامن، وهو رفض الاختلاف، ومطاردة الرأي المخالف، ومحاولة فرض نموذج "واحد وصحيح ونهائي" للحياة والتفكير والإيمان..
‎ ما تقوله يوسف هنا لا ينفي الاختلاف بين الآراء، بل يدعو إلى تقبّل هذا الاختلاف، لا باعتباره تهديدا، بل تعبيرا عن تنوع التجارب الإنسانية.
‎من الاستبداد السياسي إلى الاستبداد الرمزي
‎حين يُجبر شخص على الصمت أو يُلغى حضوره لمجرد أنه عبّر عن موقف شخصي، فإننا ننتقل من سلطة الدولة إلى سلطة الجماعة..
‎ هذا النوع من القمع ناعمٌ لكنه فعّال، هو لا يسجنك، بل يطردك من الساحة الرمزية، ويتمثل في التعليقات الساخرة، في الإلغاء الاجتماعي، في الحصار الثقافي، في الاتهام بالرجعية أو الكفر أو الوصم.. حسب السياق..
‎ إنه قمع الجماعة التي ترى في الرأي المختلف تهديدا، وفي الاستقلالية خروجا عن الإجماع.
‎حرية التعبير والرقابة الاجتماعية
‎من المفترض أن حرية التعبير تعني حرية الرأي، حتى وإن بدا هذا الرأي غير مألوف أو صادما للبعض.. فهل نحن مستعدون فعلا لتوسيع دائرة القبول والاختلاف، أم أننا نمنح الحرية فقط لمن يشبهنا؟
‎في المثال الذي تطرحه ألفة يوسف، في تدوينة على صفحتها، كل شخص يعبّر عن "توبته" أو رؤيته بطريقته: منهم من يربطها بالدين، ومنهم من يجعلها وجودية، ومنهم من ينكر أساس الفكرة..
‎ كل هؤلاء يتكلمون من داخل تجاربهم، ومتى ما لم تُفرض التجربة على الآخرين، فإنها تظل ببساطة تعبيرا ذاتيا لا أكثر.
‎الوعي الزائف ونرجسية الموقف
‎واحدة من أخطر آليات استبداد الشعوب تكمن في "النرجسية الأخلاقية"، أي الاعتقاد بأن رأينا هو الصواب المطلق، وأن الآخرين، لمجرد أنهم مختلفون، مخطئون أو خطيرون..
‎ هذا الميل إلى تصنيف الناس ومحاكمتهم هو ما يعيد إنتاج الاستبداد، حتى داخل الفضاءات التي نعتقد أنها حرة أو مفتوحة.
‎فالمشكلة، كما تقول يوسف، ليست في اختلاف الآراء، بل في تحويل الرأي إلى سلطة.. والسلطة لا تحتاج دائما إلى منصب أو سلاح، بل قد تكفيها جماعة متحمسة تهاجم وتُقصي وتُلغي.
‎هل هناك حقيقة؟
‎في ختام تدوينتها، تقول الدكتورة ألفة يوسف:
‎ "لا تنزعجوا من مواقف الغير، فهي ليست صحيحة، ومواقفكم أنتم أيضا ليست صحيحة، وهذه التّدوينة أيضا ليست صحيحة...هو مجرّد كلام، حشو، ملء للفراغ نمضي به الوقت قبل الرّحيل..."
‎هذه ليست دعوة إلى العبث، بل إلى التواضع المعرفي، لا أحد يملك الحقيقة المطلقة، ولا رأي يستحق أن يتحوّل إلى عقيدة تُفرض بالقوة على الآخرين.. في النهاية، كل شخص يروي حكاية، ويعيش داخل تأويله الخاص، وهذا ما يجعل حرية التعبير لا تعني فقط "الحق في أن أتكلم"، بل أيضاً "القدرة على التعايش مع ما لا يعجبني".
‎لكسر هذا النوع من الاستبداد، لا يكفي أن نغير الحاكم أو النظام.. نحتاج إلى مراجعة أنفسنا:
‎كيف نستقبل الرأي المختلف؟
‎هل نملك الشجاعة للاعتراف بأننا لا نعرف؟
‎هل نقبل التعدد كغنى لا كتهديد؟
‎علينا أن نُربّي في الأجيال الجديدة القدرة على التساؤل لا التلقين، على الحوار لا الهجوم، على التعايش لا الاستبعاد.
‎استبداد الشعوب أخطر من استبداد الحاكم، لأنه يعمل من الداخل، باسم "الوعي الجمعي" و"الأخلاق" و"الصواب"..وهو لا يُقاوَم بالثورة، بل بالنقد والمساءلة والاعتراف بحدودنا كبشر.. وكما قالت ألفة يوسف: "كلّ منّا يحكي لنفسه حكاية...ويصدّقها...". فلنترك الناس يروون حكاياتهم، ما دامت لا تُفرض على الآخرين، ولنتحرّر من أوهام امتلاك الحقيقة.. فقط حينها، نصير حقا أحرارا.


1,245 مشاهدات