منذ سقوط نظام بن علي في جانفي 2011، عُقدت آمال كبيرة على المجتمع المدني ليكون رافعة رئيسية في مسار الانتقال الديمقراطي.. نُظر إليه باعتباره الضامن للمساءلة والمشاركة الشعبية والتوازن مع السلطة. لكن بعد مرور أكثر من عقد، يزداد الجدل حول ما إذا كان هذا المجتمع المدني قد تطوّر بحرية من داخل المجتمع التونسي، أم أُعيد تشكيله وفق أجندات وأولويات ممولي الخارج.
وفقًا لمعطيات صادرة عن Centre IFEDA، بلغ عدد الجمعيات في تونس سنة 2016 نحو 18,558 جمعية، بينما لم يتجاوز عدد الجمعيات النشيطة فعليًا 3000 فقط.
هذا الرقم، الذي أكدته منسقة منصة jamaity.org نور كعبي، يشير إلى وجود فجوة حقيقية بين الكم والنوع. حيث إن الكثير من الجمعيات لا تنظم حتى نشاطًا واحدًا في السنة، وبعضها قائم على أفراد معدودين أو شبكات عائلية ضيقة، ما يثير تساؤلات حول مدى تأثيرها وتمثيليتها.
التحول الذي شهدته العلاقة بين المجتمع المدني والبنية السياسية كان مشروطًا منذ البداية بطبيعة التمويل الدولي. فبين عامي 2011 و2015، تلقت تونس من الاتحاد الأوروبي 2.8 مليار يورو، لكن من هذا المبلغ، لم يُخصص لبرنامج دعم المجتمع المدني (PASC) سوى 7 ملايين يورو فقط. رغم ضآلة هذه النسبة، فقد كانت كفيلة بإعادة تشكيل مشهد المجتمع المدني، إذ ارتبطت بالقدرة على البقاء والنشاط والتأثير.
تكشف شهادات بعض الفاعلين عن هذا التوجه، على سبيل المثال، أشار أشرف عوّادي، مؤسس منظمة I Watch، إلى تدخل مباشر من الاتحاد الأوروبي لثنيه عن تنظيم فعالية مناهضة لمشروع قانون "المصالحة الاقتصادية"، مما دفع منظمته لحذف شعار الاتحاد الأوروبي والإبقاء على الحدث.. هذا يعكس بوضوح كيف أن دعم الممولين قد لا يكون دائمًا غير مشروط.
أما بوبكر هُمان، رئيس شبكة الجمعيات البيئية، فقد انتقد بحدة الجمعيات التي تفتقر لأي امتداد محلي، أي التي لا تلامس الواقع المجتمعي ولا تعبر عن أولوياته، بل تردد مضامين وتقارير تم استيرادها كما هي من بروكسل أو واشنطن.
المفارقة الأكبر تكمن في أن الخطاب التنموي العالمي يُقدّم دعم المجتمع المدني كوسيلة لتعزيز الديمقراطية، بينما تُظهر الممارسات الميدانية أن هذا الدعم غالبًا ما يكون مشروطًا، وذا طابع أداتي، يُستخدم لتجميل صورة النظام العالمي النيوليبرالي أكثر من دعم التحولات المحلية الأصيلة.
يرى البعض، مثل الباحثة جوسلين دخلية، أن مسار "الانتقال الديمقراطي" في تونس أُطر منذ بدايته داخل نموذج مسبق الصنع، حزمة جاهزة من الليبرالية السياسية والاقتصادية، لا تترك مجالًا للإبداع المحلي أو لبناء مسارات مختلفة.. وتدعو بدلًا من ذلك إلى تجاوز هذه الرؤية المقيدة نحو "تفكير في المستقبل" غير خاضع لسيناريوهات جاهزة.
لكن في المقابل، هناك أصوات ميدانية، كما يذكر سهيل العيدودي من اتحاد المعطلين عن العمل، ترى أن جزءًا من المجتمع المدني قد انحرف عن دوره الحقيقي، وأصبح يُدار بمنطق إداري لا شعبي، ما يُفقده القدرة على تمثيل المهمشين أو التفاعل مع الحركات الاجتماعية الجديدة.
إن التحدي الذي يواجه المجتمع المدني التونسي اليوم لا يتمثل فقط في التمويل أو التشريعات، بل في قدرته على استعادة استقلاله الرمزي والسياسي، وإعادة الاتصال بالقواعد الاجتماعية الفعلية بدلًا من البقاء في مدار التمويلات الخارجية والأولويات الدولية.
المجتمع المدني في تونس أمام مفترق طرق، إما أن يُعيد تشكيل نفسه على قاعدة الشرعية الشعبية والاستقلالية، أو أن يظل مجرد واجهة ناعمة لأجندات خارجية، تُعاد صياغته وتوجيهه كلما تغيرت أولويات المانحين.
وفي انتظار اتضاح هذا المسار، تبقى تونس في حاجة ماسة إلى مجتمع مدني فاعل، جذري، نقدي، ومتجذر، لا فقط مجتمعًا إداريا مُموّلًا بمشاريع قصيرة الأمد.