عاجل
BTC: $45,230 (+2.3%) ETH: $3,180 (-1.2%) الدينار التونسي: 3.15 دولار النفط: $82.45 (+0.8%) الذهب: $1,950 (-0.5%)
شيفرة السياسة

‎ جيل رقمي في زمن الأزمات..هل يُعيد جيل Z كتابة قواعد السياسة؟

30 Sep 2025
الاقتصاد التونسي


‎يمثّل جيل Z، المولودون بين منتصف التسعينيات وبداية العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، حالة اجتماعية مركبة لا يمكن اختزالها في سردية واحدة. فقد نشأ هذا الجيل في ظل متغيرات عميقة، أبرزها الثورة الرقمية، تنامي الفردانية، الأزمات الاقتصادية المتلاحقة، والتغيرات المناخية.
‎ وعلى الرغم من أن عددا من الدراسات ما زالت تعيد تعريف خصائصه، إلا أن الحضور المتزايد له في الشأن العام، خاصة في السنوات الأخيرة، يفرض تساؤلات متعددة حول موقعه من السياسة، وكيفية تفاعله مع القضايا العامة، وآليات مشاركته في الشأن المجتمعي.
‎العديد من الملاحظات الميدانية تشير إلى تحولات ملموسة في أنماط التفاعل السياسي لهذا الجيل، خاصة بعد 2020.
‎ فبينما كانت الأجيال السابقة تنخرط أساسا في الحياة السياسية من خلال التصويت أو النشاط الحزبي، يميل كثير من أبناء جيل Z إلى أشكال غير تقليدية من المشاركة، مثل الحملات الرقمية، الضغط من خلال المحتوى المرئي، الاحتجاجات المنظمة عبر الإنترنت، والمبادرات الفردية أو الجماعية خارج الأطر المؤسسية.
‎يُفسّر بعض علماء الاجتماع هذا السلوك بكونه استجابة لانسداد الأفق المؤسسي أمام الشباب.. إذ يشير الباحث الكندي "ديفيد شيلدون" إلى أن "جيل Z لا يرى في الأحزاب التقليدية قناة فعالة لتحقيق مطالبه، لذلك يبحث عن فضاءات بديلة تُتيح له التعبير دون وساطة تنظيمية".
‎ومن جهة أخرى، يرى باحثون في علم النفس الاجتماعي، مثل "جان توينجي"، أن هذا الجيل يتميّز بحساسية عالية تجاه القضايا الأخلاقية والاجتماعية، مما يجعله أكثر ميلاً للانخراط في قضايا مثل التغير المناخي، العدالة العرقية، وحقوق الأقليات، حتى إن لم يكن مهتماً بالسياسة بمعناها المؤسسي الضيق.
‎في نيبال، شهد العام 2025 موجة احتجاجات واسعة قادها شباب ينتمون لجيل Z ضد القيود المفروضة على وسائل التواصل الاجتماعي، وتنديدا بسوء الحوكمة والفساد.
‎ وفي بيرو، شارك آلاف الشباب في مظاهرات رافضة لإصلاحات نظام التقاعد، معتبرين أنها تكرّس مزيدا من الهشاشة الاقتصادية.. أما في مدغشقر، فقد خرج شباب الأحياء المهمشة احتجاجا على انقطاعات الكهرباء وغلاء المعيشة، وهي تحركات لم تكن محكومة بتوجيه حزبي، بل بدافع مباشر من الأوضاع المعيشية.
‎هذه الوقائع تعزز ما ذهب إليه تقرير صادر عن "منتدى الاقتصاد العالمي" عام 2024، والذي أفاد بأن أكثر من 60٪ من شباب جيل Z في البلدان النامية يرون أن الأنظمة السياسية لا تعبّر عن تطلعاتهم.
‎كما أن استطلاعا ميدانياً أجرته مؤسسة "بيو" في 15 دولة أظهر أن هذا الجيل يُفضّل التغيير عبر الضغط الشعبي وليس من خلال الانضمام للأحزاب أو خوض الانتخابات.
‎غير أن هذه المشاركة، وإن كانت لافتة، لا تخلو من تعقيدات.. فحسب دراسات في علم النفس السياسي، فإن التعرّض المستمر للأحداث السياسية عبر وسائل التواصل قد يؤدي إلى إجهاد نفسي، وهو ما بدأت تُظهره بعض المؤشرات، مثل ارتفاع نسب القلق والتوتر لدى شباب ناشطين سياسيا على الإنترنت. كما تُطرح تساؤلات حول مدى عمق هذا الانخراط، خصوصاً في ظل الانتشار الواسع لـ"النشاط الرمزي" الذي يقتصر على التفاعل الرقمي دون فعل ميداني مباشر.
‎كذلك، يُلاحظ أن عددا من الحكومات تتعامل مع تحركات هذا الجيل بنوع من الحذر أو التجاهل، إما لاعتبارها ظرفية وغير مؤسَّسة، أو لكونها خارج إطار القنوات الرسمية.. في هذا السياق، يشير الباحث الفرنسي "جيل ليبوفر" إلى أن "المؤسسات تجد صعوبة في التكيّف مع نموذج جديد من المواطنة قائم على المبادرة الفردية والتنسيق الأفقي، لا على الهرمية والتنظيم الصلب".
‎من جهة أخرى، لا تخلو بعض التحليلات من انتقاد لهذا الجيل، حيث يراه البعض متسرعا في إطلاق الأحكام، ويصنّف سلوكياته ضمن ردود الفعل اللحظية لا الاستراتيجيات طويلة الأمد. كما تُطرح إشكالية فرط الثقة في "المعرفة الرقمية"، حيث أن كثافة المعلومات لا تعني بالضرورة دقة الفهم أو القدرة على تحليل التعقيدات السياسية.
‎رغم ذلك، لا يمكن إغفال التحول القيمي الذي يقوده هذا الجيل في اتجاه إعادة صياغة العلاقة بين المواطن والدولة، وبين الفرد والمجتمع.. فبدلاً من الالتزام الأيديولوجي التقليدي، يميل جيل Z إلى التفاعل مع القضايا بناء على أثرها المباشر على حياته اليومية، ويُقيّم السياسات من زاوية نفعية-اجتماعية أكثر منها نظرية.
‎المشهد العام إذن لا يُظهر انحيازا أحاديا لهذا الجيل نحو السياسة، بل يُبرز سلوكا براغماتيا مرنا، يتأرجح بين الانخراط القوي في قضايا محددة، والتراجع في لحظات الإحباط أو فقدان الأمل.. هذه العلاقة المتذبذبة تُعقّد من إمكانية التنبؤ بمسار هذا الجيل على المدى البعيد، لكنها تُؤشر في الآن ذاته على تحوّل في معنى المشاركة والمطالبة السياسية.
‎إن فهم علاقة جيل Z بالسياسة لا يمر عبر أحكام قيمة، بل يتطلب قراءة تركيبية لمحددات نشأته، أزماته، أدواته، وتطلعاته.. وبين تحفّظ بعض المؤسسات، وتفاؤل بعض الحركات الاجتماعية، يقف هذا الجيل اليوم في مفترق طرق، حاملا أدوات جديدة، وأسئلة قديمة في سياقات معقدة.


1,245 مشاهدات