الفكر الداعشي طفرة سرطانية في جسد يحتوي على خلايا مهيأة للانقسام المَرَضي..
الحديث عن تنظيم "داعش" يدفعنا للغوص في الجذور التي أنبتته، فقد ظهر للعالم على أنه تنظيم إرهابي دموي، لكن الحقيقة أعمق من مجرد وصفه بالعنف..
هل داعش فكر طارئ غريب عن الثقافة العربية والإسلامية؟ أم هو في جزء منه امتداد لانحرافات فكرية سابقة ترسخت عبر قرون؟
هذا المقال يحاول تفكيك الخلفيات الدينية والثقافية والسياسية التي سمحت لبذور التطرف بأن تنمو في تربة عربية خصبة بالتناقضات.
مرجعية الفكر الداعشي.. ما وراء النصوص
الفكر الداعشي يستند إلى السلفية الجهادية، وهي تيار ظهر في أواخر القرن العشرين، يعتمد على قراءة متشددة للنصوص الدينية، ويؤمن بأن الجهاد المسلح هو السبيل الوحيد لتطبيق الشريعة.
لكن المشكلة لا تكمن فقط في هذه القراءة، بل في وجود موروث تراثي وفقهي قديم ساعد على تغذية هذه النظرة.. فمثلا في كتاب "الأم" للشافعي، هناك أحكام تُجيز قتل المرتد.
في"فتح الباري" لابن حجر، يتم الحديث عن تطبيق الحدود بشكل يُفهم اليوم بأنه عنيف وقاس..
كتب مثل "الكواشف الجلية في كفر الدولة السعودية" للمدعو ناصر الفهد، تُعد من أهم مراجع داعش والجماعات الجهادية المتطرفة في التكفير..
هذه النصوص وغيرها، حين تُقرأ اليوم دون وعي تاريخي، تُصبح مادة خام للفكر المتطرف..
العقلية الإقصائية… مناهج تربوية تغذي العنف
تُظهر دراسة صادرة عن معهد Brookings Institution (2015) أن 70% من مجندي داعش من العالم العربي، تلقوا تعليمًا دينيا تقليديا، لا يُنمّي التفكير النقدي ولا يُرسّخ مفاهيم التعددية..
في العديد من المناهج الدراسية في العالم العربي، يتم تقديم العالم في ثنائية حادة:
مؤمن / كافر
دار إسلام / دار حرب
طاعة أولي الأمر / الفتنة
هذا النوع من التعليم يُنتج عقلية متحجرة وجامدة، ترى "الآخر" تهديدًا يجب التخلص منه، لا التعايش معه، كما أن غياب الفلسفة والمنطق من المناهج يجعل الطالب غير قادر على التمييز بين النص المقدّس وتأويلاته البشرية.
الاستبداد والفراغ السياسي… بيئة حاضنة للتطرف
عاشت العديد من الدول العربية تحت أنظمة قمعية لعقود، منعت الأحزاب، سحقت الحريات، وقضت على أي إمكان للفكر المدني أو الليبرالي أن يتجذر..
في ظل هذا القمع، لم يبقَ ملجأ للكثير من الشباب سوى الملاذ الديني المتشدد.
تقرير صادر عن الأمم المتحدة (UNDP, 2016) بعنوان "تحديات التنمية في العالم العربي"، أشار إلى أن أكثر من 30% من الشباب العربي يعاني من البطالة، و 60% يشعرون بانعدام المشاركة السياسية.
هذا الفراغ سمح للجماعات المتطرفة أن تملأ الفجوة، فداعش لم يكن فقط جيشًا مسلحًا، بل قدّم شعارات "العدالة" و"التمكين" و"الكرامة" لشباب مسحوق يبحث عن معنى لحياته.
تجذر التطرف في العقلية.. وليس في الدين
من الخطأ القول إن الإسلام كدين هو سبب التطرف، بل المشكلة في طريقة تلقيه وتأويله، الإسلام، كأي دين، فيه نصوص مفتوحة على التأويل، لكن حين تحتكر جماعة واحدة حق الفهم، وتُجرّم الاجتهاد، يصبح الدين أداة قمع لا هداية..
في القرن العشرين، ظهرت تيارات إسلامية تنويرية مثل فكر محمد عبده، وعلي عبد الرازق، الذين دعوا لفصل الدين عن الدولة وإعادة النظر في مفهوم "الخلافة"، لكن هذه الأصوات أُسكتت لصالح خطاب ديني رسمي يُكرّس الطاعة والنمطية..
تفكيك التطرف لا يبدأ بالبندقية
المعركة ضد "داعش" ومشتقاته لا تُحسم عسكريا فقط، بل عبر إصلاح التعليم الديني، عبر إدخال علوم المنطق والتفكير النقدي..
عبر الاعتراف بالتعدد داخل المجتمعات العربية، دينيا وفكريًا..
عبر فتح باب الاجتهاد الفقهي أمام المؤسسات الدينية التقليدية، بدل الجمود عند فتاوى قرون مضت.
عبر إطلاق حريات سياسية ومدنية تسمح بظهور خطاب عقلاني بديل..
باختصار، الفكر الداعشي ليس طارئًا بالكامل، بل هو نتيجة خلل ممتد في الثقافة العربية، تراكم عبر قرون من الإقصاء، الجمود، والاستبداد.. التخلص من داعش كتنظيم لا يكفي، بل يجب مواجهة البيئة الفكرية والثقافية التي أنتجته.. وهذا التغيير لا يحدث بقرارات فوقية فقط، بل بثورة معرفية تبدأ من المدرسة، وتمر بالجامعة، وتنتهي في منابر الدين والإعلام.