عاجل
-‎تونس تسجّل عجزًا تجاريًا قياسيًا يتجاوز 11,9 مليار دينار في نهاية جويلية 2025- ‎رحيل فاضل الجزيري... وداع مؤثر لعملاق المسرح والفن التونسي
BTC: $45,230 (+2.3%) ETH: $3,180 (-1.2%) الدينار التونسي: 3.15 دولار النفط: $82.45 (+0.8%) الذهب: $1,950 (-0.5%)
شيفرة السياسة

‎بين الوعود التنموية والقيود الأمنية: ماذا تريد إيطاليا من تونس عبر "خطة ماتي"؟

31 Jul 2025
الاقتصاد التونسي


‎في زيارة شبه مفاجئة وغير معلنة مسبقًا من الجانب التونسي، حلت رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني بتونس يوم 31 جويلية 2025، حيث التقت بالرئيس قيس سعيد في لقاء انفرادي يُعتبر الثالث من نوعه خلال أقل من عام.
‎هذه الزيارة تأتي في إطار متابعة تنفيذ "خطة ماتي"، وهي المبادرة الإيطالية التي انطلقت رسميا أوائل 2024 بهدف تعزيز الشراكة مع دول إفريقيا في مجالات الطاقة والتنمية مقابل تنسيق أمني أقوى في ملف الهجرة. وتُصنّف تونس ضمن الدول ذات الأولوية في الخطة، ما يجعل العلاقة مع روما تتجاوز الطابع التقليدي نحو صيغة "شبه استراتيجية"، غير أنها تبقى غير متكافئة في نظر عدد من المراقبين بسبب الاختلال في موازين القوة والمصالح.
‎خطة ماتي كما صرحت بها ميلوني، ليست مجرد آلية إيطالية لتصدير المشاريع أو احتواء أزمات الهجرة، بل تُقدَّم على أنها تصور جديد للعلاقة بين أوروبا وإفريقيا، يُعلي من مبدأ الشراكة المتبادلة، ويهدف إلى التصدي لما وصفته ميلوني بـ"الاستعمار الجديد" الذي تمارسه بعض القوى العالمية عبر الديون والاستغلال.
‎غير أن القراءة الواقعية لطبيعة تطبيق هذه الخطة في تونس تكشف أن الأولويات الإيطالية في المرحلة الحالية تتركز على محاور أمنية وسياسية بالدرجة الأولى، يأتي في مقدمتها تقليص أعداد المهاجرين المنطلقين من السواحل التونسية نحو لامبيدوزا وصقلية.
‎فإيطاليا، كما تشير الأرقام الرسمية، سجلت انخفاضًا بنسبة تقارب 65٪ في عدد الوافدين غير النظاميين من تونس خلال الأشهر الخمسة الأولى من 2025 مقارنة بنفس الفترة من 2023، وهو ما تعتبره روما نجاحًا دبلوماسيا وأمنيا يستحق التعزيز، لا سيما في ظل التحديات السياسية الداخلية التي تواجه حكومة اليمين المتطرف بقيادة ميلوني.
‎الزيارة الأخيرة لم تخلُ من توقيع اتفاقيات مالية وفنية، شملت تخصيص دعم بقيمة 50 مليون يورو لتعزيز مشاريع الطاقة المتجددة في تونس، إضافة إلى خط تمويل بقيمة 55 مليون يورو موجه للمؤسسات الصغرى والمتوسطة، فضلاً عن مذكرة تفاهم في مجال التعليم العالي والتكوين.
‎ كما تم الحديث عن الشروع قريبًا في تنفيذ مشروع "TANIT" الذي يهدف إلى إعادة استعمال المياه المعالجة في الزراعة، وإنشاء مركز إقليمي للتكوين الفلاحي..
‎هذه المشاريع، رغم رمزيتها وأهميتها من حيث تنويع مجالات التعاون، فإن حجمها المالي يظل محدودًا مقارنة بطموحات تونس في جذب استثمارات حقيقية قادرة على إحداث أثر ملموس في الاقتصاد الوطني المنهك.
‎الأبعاد الخفية للزيارة تبرز بشكل أكبر في ملف الهجرة، إذ تسعى إيطاليا إلى تحويل تونس إلى حارس متقدم لحدود الاتحاد الأوروبي، من خلال التنسيق الأمني وقطع مسارات الهجرة غير النظامية، مع تقديم حوافز رمزية تتعلق بإمكانية السماح بهجرة قانونية ومُنظّمة عبر برامج تدريبية ومهنية، خاصة في القطاع الفلاحي.
‎ غير أن هذه "المكافآت" تبقى مشروطة وتُدار عبر هياكل أوروبية ودولية، ما يقلل من استقلالية تونس في صياغة سياسات الهجرة الخاصة بها.. كما أن ربط التنمية بمسألة ضبط الحدود يُعد مقاربة مثيرة للجدل من الناحية الأخلاقية والسياسية، ويعيد إلى الأذهان ممارسات "أوروبا الحصن" التي تفضل الاستقرار الظرفي على معالجة الأسباب الجذرية للهجرة، مثل البطالة والفقر والفساد السياسي.
‎من جهة أخرى، أشارت الزيارة إلى أهمية مشروع الربط الكهربائي بين تونس وصقلية "ELMED"، الذي يُعتبر من أضخم المشاريع الاستراتيجية المنتظرة، بتمويل أوروبي يتجاوز 850 مليون يورو.
‎وتطمح إيطاليا من خلاله إلى تعزيز موقعها كممر للطاقة الإفريقية نحو القارة الأوروبية، وهو ما يمنح تونس فرصة نادرة للتحول من دولة عبور للهجرة إلى منصة طاقية ذات دور إقليمي. لكن هذه الفرصة مشروطة بحُسن إدارة المشاريع، وضمان بيئة استثمارية جاذبة، وهو ما لا يتوفر بالكامل في السياق التونسي الراهن، الذي يشهد اضطرابًا سياسيا واقتصاديا.
‎ولعل ما يثير الانتباه في زيارة ميلوني، ليس فقط مضامين الاتفاقيات، بل طريقة إدارتها وتغطيتها الإعلامية، فقد تكفل الجانب الإيطالي بالإعلان المسبق عن الزيارة ونشر الصور الرسمية والبيانات المفصلة، في حين اكتفت الرئاسة التونسية ببيان مقتضب ومتأخر.
‎في المحصلة، ما تريده ميلوني من تونس يتجاوز التعاون الاقتصادي إلى محاولة فرض نموذج من "الاحتواء الناعم" عبر بوابة التنمية، تُغلفه لغة الشراكة والاحترام المتبادل، بينما تحكمه اعتبارات واقعية تتعلق بأمن الحدود وتهدئة الساحة الداخلية الإيطالية.
‎وتونس، وهي في موقع ضعف مالي ودولي، تجد نفسها مجبرة على التعامل مع هذا الواقع بعقلانية، لكن مع ضرورة الانتباه إلى حدود الاستجابة، حتى لا تتحول إلى ورقة وظيفية ظرفية، يُستغنى عنها حين تتغيّر أولويات العواصم الأوروبية.
‎فهل ستتمكن تونس من تحويل هذه الشراكة إلى مكسب حقيقي يخدم مصالحها؟ أم أنها ستظل مجرد أداة ضمن أجندة أوروبية تسعى إلى تصدير أزماتها نحو الضفة الأخرى؟
‎ الجواب سيكون رهين مدى قدرة الدولة على التفاوض بندية، وتحقيق التوازن بين الانخراط في التعاون والانتصار للسيادة.


1,245 مشاهدات