عاجل
BTC: $45,230 (+2.3%) ETH: $3,180 (-1.2%) الدينار التونسي: 3.15 دولار النفط: $82.45 (+0.8%) الذهب: $1,950 (-0.5%)
شيفرة الثقافة

‎الدوامة التاريخية: لماذا يعود المثقف العربي إلى ابن خلدون كلما اشتد المأزق؟

18 Oct 2025
الاقتصاد التونسي


‎في خضم ما يشهده العالم العربي من أزمات سياسية، وتفكك اجتماعي، وتحديات اقتصادية وثقافية، يبرز سؤال عميق ومحوري: لماذا يعود المثقفون العرب إلى ابن خلدون؟
‎هل هو الحنين إلى عبقرية الماضي؟ أم محاولة لاستلهام أدوات تحليلية لفهم حاضر يفيض بالتعقيد؟ أم أنه، ببساطة، لأن ابن خلدون لا يزال الأكثر جرأة ووضوحًا في قراءة سنن العمران البشري وسقوط الدول؟
‎في السنوات الأخيرة، عاد اسم ابن خلدون ليحتل موقعًا بارزًا في الخطاب الفكري والثقافي العربي. كتب، مقالات، ندوات، دراسات أكاديمية، بل حتى البرامج التلفزيونية ، أصبحت تستدعيه ليس كشخصية تراثية، بل كمفكر معاصر بمعنى ما.
‎ابن خلدون: فكر يتجاوز زمانه
‎ولد عبد الرحمن بن محمد بن خلدون الحضرمي عام 1332م في تونس، وعاش في حقبة انحدار سياسي وثقافي شديد، تمامًا كما يعيش العالم العربي اليوم مرحلة تشظٍّ وانقسام.. ورغم قتامة عصره، أنتج "المقدمة"، ذلك العمل الذي تجاوز زمانه، ليؤسس لما يشبه علم الاجتماع التاريخي، قبل أن يظهر المصطلح نفسه في الفكر الأوروبي بقرون.
‎في مقدمته الشهيرة، لم يكتفِ ابن خلدون بوصف المجتمعات، بل حاول تفكيك آليات نشوء الدول وزوالها، عبر مفاهيم مثل العصبية والعمران والدورة التاريخية. هذه المفاهيم، بتعبير المفكر المغربي عبد الله العروي، تُعد أدوات تحليلية أكثر منها نتائج نهائية، وهو ما يفسّر قابليتها للتوظيف في قراءة الحاضر العربي.
‎لماذا يعود المثقفون العرب إليه اليوم؟
‎العودة المتكررة إلى ابن خلدون ليست محض استعادة تراثية، بل تعبير عن أزمة تأويل الحاضر. في ظل تعثر مشاريع الدولة الوطنية، وتفاقم النزاعات الداخلية، وشعور عام بانسداد الأفق، يجد المثقف العربي في ابن خلدون إطارًا لتفسير "الدوامة التاريخية" التي يعيشها العالم العربي: من صعود قوى غير تقليدية، إلى ضعف المؤسسات، وانهيار الشرعيات، وانقسام النخب.
‎يقول المفكر اللبناني جورج قرم: "إن في فكر ابن خلدون قدرة عجيبة على تفسير الراهن، دون أن يُسقط عليه أدوات مستوردة من الخارج".
‎وهنا تكمن نقطة مركزية: ابن خلدون ليس بديلاً عن الحداثة، لكنه حليف لفهم خصوصيتنا في علاقتنا بها.
‎حضور ابن خلدون في الفكر العربي المعاصر
‎كثير من المفكرين العرب عادوا إليه لأسباب مختلفة.
‎* استحضره محمد عابد الجابري ضمن مشروعه في "نقد العقل العربي"، معتبرًا أن فكره يشكل لحظة عقلانية تجاوزت الفكر الغيبي السائد في عصره.
‎* استعان به هشام جعيط في فهم تحولات الدولة الإسلامية، لا سيما في القرون الأولى، واصفًا إياه بـ"أول من أسس سوسيولوجيا عربية عقلانية".
‎* أما الطيب تيزيني، فقد رأى فيه تمردًا مبكرًا على الفكر الديني المغلق، ومحاولة لفهم الدين من منظور اجتماعي.
‎هذه القراءات المختلفة تدل على ثراء ابن خلدون وتعدد زوايا النظر إليه، وتُبرز قابليته للتجدد مع كل أزمة فكرية أو تحوّل سياسي.
‎بين الغرب والعالم العربي: المفارقة
‎من المفارقات اللافتة، أن ابن خلدون نال تقديرًا واسعًا في الفكر الغربي قبل أن يُعاد اكتشافه عربيا.
‎أشاد به أرنولد توينبي، المؤرخ البريطاني الشهير، واعتبره "أعظم مفكر في التاريخ قبل العصر الحديث".
‎ أما إيف لاكوست، فقد رأى فيه سوسيولوجيا سبق أوغست كونت بعِدّة قرون، وأنه يمتلك أدوات أكثر نضجًا مما قدمته أوروبا في بدايات علم الاجتماع.
‎لكن المفارقة المؤلمة أن مناهج التعليم العربي نادرًا ما تحتفي بابن خلدون بصفته مؤسسًا لفكر اجتماعي عربي أصيل، وغالبًا ما يُقدَّم كمجرد شخصية تاريخية لا كصاحب نظرية حية.
‎هل يمكن أن ينقذنا ابن خلدون من حاضرنا؟
‎بالطبع، لا يمكن لابن خلدون أن يحلّ أزماتنا السياسية والاقتصادية، لكنه يُقدم أدوات لفهم الحاضر دون الانخداع بالشعارات.
‎فهو يحذّرنا من تضخّم الدولة، ومن انهيار العصبية الجامعة، ومن دور الاقتصاد في صعود الحضارات وسقوطها. وهو يضع أصبعه على الجرح حين يعتبر أن الترف والفساد الإداري والانفصال عن المجتمع هي أسباب زوال الدول.
‎ما أحوجنا اليوم إلى قراءة كهذه، في وقت تتساقط فيه كيانات سياسية، وتُجهض ثورات، وتُعاد هندسة المجتمعات العربية بطرق غير مسبوقة.
‎في الختام، ابن خلدون بيننا
‎ابن خلدون ليس مجرّد عبقري عاش قبل 700 سنة.
‎إنه، في جوهره، مرآة نرى فيها هشاشتنا الحالية، وإمكاناتنا الضائعة، وأداة نحلل بها تراكماتنا التاريخية التي تمنعنا من بناء مستقبل مختلف.
‎ربما علينا أن نتوقف عن استحضاره كشاهد على الماضي، ونبدأ في التعامل معه كمفكر معاصر، يُحرّك فينا الأسئلة الصعبة بدل أن يمنحنا إجابات جاهزة.
‎فالسؤال الذي لا بد أن نطرحه اليوم هو:
‎هل نحن مستعدون للإنصات إلى ابن خلدون، لا كفخر تراثي، بل كعقل نقدي يدفعنا نحو تجاوز المأزق؟


1,245 مشاهدات