عاجل
BTC: $45,230 (+2.3%) ETH: $3,180 (-1.2%) الدينار التونسي: 3.15 دولار النفط: $82.45 (+0.8%) الذهب: $1,950 (-0.5%)
شيفرة الثقافة

‎الأندلسيون في الذاكرة التونسية.. بين الحقيقة التاريخية والتوظيف السياسي

20 Aug 2025
الاقتصاد التونسي


‎في السنوات الأخيرة، تصاعدت في تونس نبرة تمجيد الهجرة الأندلسية (1609) بوصفها نقطة تحول حضاري فارقة في تاريخ البلاد، تجلّت في سردية شائعة تؤكد أنّ "الأندلسيين جلبوا الحضارة إلى تونس". ورغم أن هذا الخطاب يُروّج له أحياناً من باب الفخر العائلي أو الانتماء الهويّاتي، إلا أنه أصبح أيضاً، كما يُلاحظ في بعض الإنتاجات الإعلامية كالبودكاستات الوثائقية، إطاراً تفسيرياً يستعاد لتفسير مسائل معاصرة كالهجرة والتعايش والهُوية، دون أن يُخضع لمراجعة تاريخية نقدية جدية.
‎ الأندلسيون: بين مأساة المنفى ومكانة النخبة
‎بدأت القصة سنة 1609 عندما أصدر الملك الإسباني فيليب الثالث مرسوماً بطرد الموريسكيين –وهم المسلمون من أصول أندلسية ممن أجبروا على التنصير– في سياق سياسي مركّب هدفه "تطهير إسبانيا دينياً". تونس العثمانية استقبلت نحو 80 ألفاً منهم، أي ما يقارب 8% من سكان البلاد حينها، في عملية أعادت تشكيل جزء من الخارطة السكانية والاقتصادية للبلاد.
‎لكن ما بدأ كحدث لجوء قسري، تحوّل تدريجياً إلى سردية انتقائية تُضفي على الموريسكيين صفة "الصفوة الحضارية" التي غيّرت وجه تونس: في الزراعة، والعمران، والسياسة. وقد ساهمت النخبة الأندلسية، التي برزت في المجالين الثقافي والديواني، في تثبيت هذه الصورة من خلال كتابة التاريخ بأنفسهم، كما في مؤلفات مثل الحلل السندسية في الأخبار التونسية لابن السراج الأندلسي.
‎ تفوق منقول أم مفروض؟ قراءة في الشروط السياسية للهجرة
‎تستند الرواية الرسمية إلى فكرة أن العثمانيين "منحوا" الأندلسيين أراضي شاسعة في شمال البلاد، مكافأةً على "كفاءتهم" و"تحضّرهم".
‎ لكن هذا التصور يُخفي واقعاً أكثر تعقيداً: تلك الأراضي كانت آهلة جزئياً، وكانت قبائل عربية وأمازيغية قد استقرت فيها منذ قرون، وإن بطابع بدوي.
‎التاريخ المحلي يُظهر أن القوة العسكرية العثمانية لعبت دوراً مباشراً في فرض هذا الاستقرار الجديد، وأن إعادة توزيع الأراضي تمت تحت إشراف السلطة العثمانية لأغراض سياسية صرفة: ضمان ولاء شريك مدني-حضري في مواجهة القبائل الرافضة للحكم العثماني، والتي تجسدت في حركات مقاومة مثل "الشابية" الصوفية.
‎المؤرخ التونسي توفيق البشروش في كتابه جمهورية الدايات أشار بوضوح إلى أن التاريخ التونسي الرسمي كان "حضري المنحى، يُدير ظهره للقبائل وعامة الناس". وهذا ما يفسر تغييب روايات "السكان المتأثرين" مقابل تضخيم دور "السكان الوافدين".
‎ في نقد الأسطورة الزراعية: هل كانت تونس أرضاً قاحلة قبل 1609؟
‎من أشهر ما يُردَّد عن الأندلسيين أنهم أحدثوا "ثورة زراعية" في الشمال التونسي، وأدخلوا محاصيل جديدة كالرمان والتفاح وأنظمة ري متقدمة. إلا أن المعطيات التاريخية من فترات أسبق –من العهد البونيقي والروماني، مروراً بالعصر الإسلامي الوسيط– تُثبت أن تونس كانت ذات تقاليد زراعية عريقة ومتنوعة، وأن الغلال كانت حاضرة بكثافة في مناطق مثل قابس وقفصة وسوسة.
‎هكذا يبدو التمجيد الزراعي للموريسكيين نتيجة إعادة قراءة لاحقة للتاريخ، تعكس انحيازاً لا نقاشاً علمياً. فالمسألة لا تتعلق بإنكار مساهماتهم، بل بتحديد سياقها الحقيقي دون أن تطغى على مساهمات السكان المحليين الذين سبقوهم بقرون.
‎الهجرة كمفهوم سياسي: من 1609 إلى 2025
‎يحاول بعض الإعلام المعاصر في تونس، تقديم هجرة الموريسكيين كنموذج "للهجرة الإنسانية" والتعايش، في مقابل ما يُنظر إليه اليوم من توترات بشأن هجرة المهاجرين الأفارقة جنوب الصحراء إلى تونس. لكن هذه المقارنة تبدو متعسفة، بل مُضللة.
‎فالهجرة الأندلسية تمت في إطار توازنات سياسية إقليمية: العثمانيون استثمروا في الأندلسيين كعنصر دعم، ومنحوهم امتيازات عقارية وامتيازات جبائية، سرعان ما ولّدت حساسية لدى السكان الآخرين. على العكس من المهاجرين اليوم، الذين يُنظر إليهم كعبء أمني وديمغرافي، وتُطبّق في حقهم سياسات تضييق، مدفوعة من أوروبا، تعيد تونس إلى دور "المنطقة العازلة" دون مقومات استقبال حقيقية.
‎ رواية منقوصة: أين صوت القبائل والقرى؟
‎من اللافت أن معظم السرديات المتداولة عن الأندلسيين، سواء في النصوص القديمة أو الإعلام الحديث، تغيب عنها الرواية المضادة: رواية القبائل المحلية، أو القرويين الذين تمّ إزاحتهم أو التعايش معهم قسراً أو طواعية. الباحث حسام الدين شاشية، أحد أبرز من اشتغلوا على التاريخ الموريسكي، أشار إلى أن حتى المصادر الإسبانية الكنسية لم تُجمِع على صورة موحّدة للموريسكيين، بل قدّمت صوراً متباينة تراوحت بين الإعجاب والريبة.
‎هذا الغياب يُبرز الحاجة إلى كتابة تاريخية بديلة وشاملة، تُعيد الاعتبار لمختلف مكونات المجتمع التونسي في تلك المرحلة، دون اختزال أو تفضيل ثقافي مبني على تصور أحادي للتمدن والتقدم.
‎المطلوب اليوم ليس محو الأثر الأندلسي من التاريخ التونسي، بل إعادة توطينه ضمن سياقه الصحيح: باعتباره تجربة لجوء سياسية تحوّلت إلى شراكة مشروطة، لا إلى "بعثة حضارية" فوقية. الاعتراف بالتعدد لا يكون عبر تكريس التفوق، بل بإفساح المجال للروايات الغائبة، وإعادة فتح ملفات التعايش والهجرة والهوية بمنهج تاريخي علمي لا انفعالي.


1,245 مشاهدات